#تمرد_فاغنر
بقلم #عدنان_محتالي
في يوم الجمعه المنصرم و على خلفية ما يبدو تفاقما للصراع بينه و بين شويغو و غاراسيموف، قام يفڤيني بريڤوجين بإعلان تمرده على قرارات وزارة الدفاع الروسية و دخوله الأراضي الروسية عبر مدينة روستوف و أعلن عن سيره في اتجاه العاصمة موسكو، و استمر سيره من خلال الطريق M4 المؤدية إليها، لكنه توقف في مدينة فورونيج (منتصف الطريق تقريبا، 200 كلم) ، بعد توسط للرئيس البيلاروسي لوكاشينكو بين قائد فاڤنر و القيادة في موسكو، و لقد كان هذا التمرد/محاولة الإنقلاب غريبة جدا، ذلك أن تقدم فاغنر لم تقابله أي مقاومة من الجيش الروسي، كما لم يتم توثيق أي إشتباكات عدى اسقاط طائرة نقل عسكرية يقال أنها تحمل 10 أشخاص (لم يتم تصوير الجثث و لم يتم الإعلان عن أسمائهم)، كما أن الحركة بقيت عادية و الناس تتحرك بشكل عادي في الوقت الذي كان عناصر فاغنر ينشرون حواجزهم.
قبل أن نخوض في الموضوع لبدا لي أن أوضح للقارئ أنه ليس بالإمكان معرفة ما إذا كان التمرد حقيقيا أو لا، و ما الهدف الفعلي من القيام به إذا كان مجرد مسرحية أدتها القيادة الروسية مع بريڤوجين أو بدونه، ذلك أنه لا وجود لأي مخرج رسمي أو ميداني للتمرد و لا للإتفاق، و لا وجود لمخرج لم يكن الوصول اليه دون اللجوء إلى المسرحية، و سوف أقوم بشرح ذلك لاحقا.
ربما نكون غير قادرين على الفصل في حقيقية التمرد، لكن هذا لا يمنعنا من تقديم عدد من الإفتراضات و الإحتمالات، و هي كالتالي:
1- الإحتمال الأول هو أن التمرد حقيقي، فرغم غرابته و عدم تراصف الأحداث و منطقيتها، إلا أن عدد كبيرا من الروس قد صدقوه، و هنا يجب أن نذكر شيئا مهما، و هو أن هذا التمرد لا يعتبر شآنا دوليا يمكن معالجته من خلال علم العلاقات الدولية، و هو علم يدرس تفاعل فواعل دولية، وفق قواعد عقلانية يمكن ملاحظتها و دراستها، إن هذا التمرد شأن روسي داخلي، يخضع لتأثير العقلية الروسية الخالصة، و مهما حاولنا دراسة العقلية Mindset الروسية (و لقد فعلت بشكل مستفيض) و عقليات دول أخرى (خصوصا الدول الشرقية) فإننا سنبقى غير قادرين على إتقانها، و هنا يقع الخطأ لدى أغلب علماء السياسة الغربيين، الذين يعالجون مسائل الدول الشرقية وفق معاييرهم و عقلياتهم و قيمهم الغربية، فعلى سبيل المثال، هنالك من علماء السياسة الغربيين من يدعون الخبرة في الشأن الجزائري، يبذلون عقودا من حياتهم لفهم مسائل تعتبر أمرا بديهيا لدى طفل جزائري ذي 14 سنة، و هذا ما قد يكون سببا في شعورنا بغرابة الحادثة بالنسبة لنا في حين أن المواطن الروسي يرى أن ما حدث أمر منطقي أو قابل للحدوث، ففي تصوير ميداني لعملية انسحاب قوات فاغنر من روستوف، قام به مراسل الحروب البريطاني المستقل Patrick Lancaster، تفاجأ من تهليل الروس لروسيا، بوتين و فاغنر في نفس للوقت، معتبرين ما حدث مجرد سوء تفاهم، مبدين سعادتهم بزوال الأزمة بدون خسائر تقريبا.
و في نفس السياق، فإن الدوائر الإستخبارية الأمريكية توقعت أن يكون الصدام بين الطرفين أكثر دموية بكثير، و عملت على تأزيمه، لكن الـ FSB الروسية أعلنت عن تحييد خلايا أوكرانية نائمة كانت مستعدة لإحداث أكبر قدر من الفوضى أثناء هذا التمرد.
2- الإحتمال الثاني، و هو أن الحادثة عملية سايكولوجية Psyop الغرض منها أحد التأثيرات التالية
- #الإيهام بالضعف، و المقصود هنا القوات الأوكرانية، و ذلك لدفعها إلى محاولة مباغتة الروس الملتهين بهذه الحادثة، و هذا لكي تواصل دفع المقاتلين إلى الجبهة، و بالتالي استمرار تصفية أكبر قدر ممكن من عناصر الجيش الأوكراني، كما تم تحديده كأهداف للعملية العسكرية الخاصة..... و في هذه الحالة، فقد حاول الأوكرانيون مباغتة الروس لكن ليس بالشكل الملاحظ، كما أن استدراج المقاتلين الروس قد لا يتطلب حادثة بهذا الحجم و يمكن القيام بها بطرق أخرى أقل كلفة.
- #التمويه على أحداث أخرى، لا ترغب القيادة الروسية أن تحظى بالإهتمام، كالتمويه عن تحركات عسكرية للجيش الروسي في مسرح العمليات الأوكراني. أو التمويه عن عمليات مفاوضات جارية بين أحد الأطراف، الروسي-الأوكراني أو الروسي-الأمريكي، و في حين أن التمويه عن التحركات الميدانية غير مجد بما أن كل متر مربع من أوكرانيا و غرب روسيا مراقب بالأقمار الإصطناعية، إلا أن التمويه عن مفاوضات ممكن.... هذا الإحتمال أيضا يبقى قائما لكن لا توجد أدلة عليه.
- #التبرير، لقد أصبحت فاغنر تحظى بشعبية كبيرة في الأوساط الشعبية الروسية، و أصبحت تتمتع بنوع من الشرعية، و هذا يعتبر في الحقيقة مأزقا وقعت فيه السلطات الروسية، فالجيوش الموازية لطالما كانت خطرا على تماسك كيان الدولة، و لهذا فإن ما حدث يمكن اعتباره تبريرا للرأي العام للخطر الناتج عن وجود جيش موازي للجيش النظامي، و يبرر ضرورة نقل مقره إلى مكان آخر من أجل إبعاد الخطر، و إن صح هذا الإحتمال، يمكن أن يكون ذلك بعلم و موافقة من بريڤوجين أو دون علم منه، أي أنه قد يكون قد تعرض للإيحاء، لا يجب أن ننسى هنا أن 70٪ أو ربما أكثر من تعداد فاغنر كان أو لازال يخدم في الجيش الروسي، و يمكن أن نقول أن هذا الإحتمال الوحيد المدعوم بمخرجات ميدانية، حيث نقل كل بريغوجين و مقاتلوه مقر و مركز شركتهم إلى بيلاروسيا.
- الإحتمال الأخير هو #الحث، حيث من المؤكد أن التمرد و محاولة الإنقلاب قد دفعا الكثير من الروس و المتواجدين في روسيا، من الموالين للغرب، لأوكرانيا أو المعادين للنظام الروسي، إلى التحرك بعد الجزم بحقيقية الإنقلاب، قد يكونون مسؤولين عسكريين أو مدنيين او رجال أعمال، فإذا كانت روسيا قد وضعت عددا كبيرا منهم تحت المراقبة، فإن عملية سايكولوجية بهذا الشكل ستحثهم إلى الظهور أو استعادة النشاط، مما يجعل رصدهم و كشفهم ممكنا، و لا ننسى هنا أن بوتين بعد نهاية الأزمة دعى مقاتلي فاغنر ممن لم يشاركوا في التمرد، إلى التقدم بطلبات إعادة ادماجهم في الجيش الروسي.
بعد أن قدمت بعض الإحتمالات المقبولة بالنسبة لي على الأقل، حان الوقت لكي أثبت عدم صحة بعض الإفتراضات التي يتم تداولها حول هذا الموضوع :
1- أن بريغوجين قد تمكن من لي ذراع البوتين من أجل تنحية وزير الدفاع شويغو و رئيس الأركان غاراسيموف، لكن الحقيقة غير ذلك، حيث قام شويغو اليوم بزيارة ميدانية إلى الخطوط الخلفية لمسرح العملية العسكرية الخاصة.
2- أن فاغنر خدعوا العالم فبينما كانوا على بعد 200 كلم من موسكو أصبح اليوم على بعد 100 كلم من العاصمة الأوكرانية كييف، و الحقيقة هي أن انتقال فاغنر إلى بيلاروسيا لا يحتاج إلى عملية خداع استراتيجي يتم اشراك بوتين فيها، قوات فاغنر الروسيةوحدات عسكرية عالية الحركية، و هي قادرة للتحرك إلى بيلاروسيا دون حرج و دون موافقة الرئيس البيلاروسي نفسه.
- أن الروس قد نشروا حوالي 60 ألف روسيا في بيلاروسيا، و هذا من أجل تأمين سلامة و حكم لوكاشينغو، بالإضافة إلى منع بولندا من دخول الأراضي الأوكرانية في حالة ما انهارت دفاعات هذا الأخير، أي أن انتقال فاغنر إلى بيلاروسيا يعتبر لا حدثا على الصعيد العملياتي.
3- تحاول المنابر الغربية الربط بين انقلاب بريغوجين على روسيا و بين خطأ محاسبي بحجم 6.2 مليار دولار أعلن البينتاغون عن ضياعها خلال عملية جرد الموارد الموجهة نحو أوكرانيا كمساعدات عسكرية، و تقول المنابر أن بريغوجين قد تحصل على الـ 6.2 مليار دولار مقابل الإنقلاب على روسيا، ثم أنه خدع الأمريكان و تراجع عن تمرده.
في الحقيقة، فإن هذه الفرضية مجرد هراء، و هي كذلك للأسباب التالية:
- من المعروف أن عمليات التحويل السرية و المشبوهة، و عمليات تمويل الجماعات العسكرية تقع في دائرة اختصاص وكالة الإستخبارات المركزية CIA قانونا، أي أن الأموال تتحرك من و إلى ما يعرف الحسابات المظلمة shadow accounts لا عبر حسابات و بورتفوليوهات وزارة الدفاع.
أن الإعلان عن الخطأ هو في الحقيقة خدعة من الإدارة الأمريكية من أجل توفير موادر إضافية يمكن تحويلها تجاه أوكرانيا، و الأمر كالتالي:
كما يعلم البعض فإن الكونجرس منح إدارة بايدن مبلغ 113 مليار دولار لصرفها على حرب أوكرانيا، و قد قام بإستهلاك المبلغ كله، و قد تم تقييم المساعدات على أساس ما يعرف بـأعباء الخدمات Services cost، فعلى سبيل المثال، يتم تثمين عربة Bradley لنقل الجنود كالتالي (ثمن انتاج العربة + ثمن الصيانة + ثمن الذخيرة)، لكن الإدارة عادت و قالت أن خللا قد حدث و يجب تقييم المساعدات وفق الثمن الصرف Netbook Value، أي ثمن العربة دون خدمات او مصاريف، و عند إعادة تقييم المساعدات، تبين أن قيمة المساعدات أنخفضت بقيمة 6.2 مليار دولار، و هو مبلغ سيكون قادرا على إرساله إلى أوكرانيا في شكل مساعدات عسكرية إضافية، يمكن من خلالها تمديد الحرب لفترة أطول قليلا.
4- تحدثت بعض المنابر الأمريكية و حتى المرموقة منها من الـ New York times عن تأذي صورة الرئيس الروسي بوتين بسبب تحدي قائد فاغنر له، و لكن من خلال مطالعة المقالات تكتشف انها استمرار للبروبغوندا المعهودة، الحقيقة هي أن الشعوب تملك ذاكرة سمكة ملونة، تنسى بسرعة جديدة، فالكل يتذكر حادثة سماح الصينيين لنزول بيلوزي في تايوان رغم الوعيد الشديد، لكن لا أحد اليوم يعتقد أن شي جينبينغ رئيس ضعيف، بل بالعكس، فقد اثبت علو كعبه و كعب بلده عندما استطاع إحلال السلام بين إيران و السعودية.
و عند تحليل استطلاع رأي الروس، نجد أنهم يرون أن بوتين أثبت حكمته من خلال تمكنه من تفكيك لغم خطير جدا في وقت حرج (الحرب ضد الغرب) دون ارتقة الدماء، كما أحيا لديهم حقيقة الخطر النابع من وجود قوات قوية عسكرية موازية للجيش الروسي.
على كل، و كما قلت، لا يمكن حاليا الجزم بصحة أي من الإحتمالات، قد تظهر في يوم ما دلائل عن حقيقية التمرد، أو كونه مجرد مسرحية متقنة..... و قد لا تظهر أبدا.
إرسال تعليق